تشهد المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة تحولات جوهرية في مختلف القطاعات، نتيجة لرؤية السعودية 2030 التي تضع تطوير رأس المال البشري وتعزيز الكفاءات المحلية في صدارة أولوياتها. ويُعد قطاع المحاسبة والمراجعة من أبرز هذه القطاعات التي شهدت نقلة نوعية، تمثلت في ارتفاع ملحوظ في عدد المهنيين المرخصين، وتطور البيئة التنظيمية والمهنية بما يتناسب مع متطلبات العصر واحتياجات السوق.
وفي هذا السياق، كشفت الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين عن تحقيقها نموًا مذهلًا بنسبة 126% في عدد التراخيص المهنية الصادرة خلال الخمس سنوات الماضية، مقارنة بإجمالي التراخيص الصادرة منذ تأسيس الهيئة قبل أكثر من ثلاثة عقود. هذا النمو الكبير لا يُعد رقمًا عابرًا، بل هو نتاج عمل استراتيجي مكثف تم تنفيذه وفق رؤية واضحة واستراتيجية متكاملة أطلقتها الهيئة في عام 2021، وامتدت حتى عام 2025.
126% نمو في التراخيص المهنية – أسباب ونتائج
أعلنت الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين عن زيادة نسبتها 126% في إصدار التراخيص المهنية خلال الخمس سنوات الأخيرة، وهو رقم يُعد الأعلى منذ تأسيس الهيئة في عام 1413هـ. هذا النمو اللافت لم يكن وليد صدفة، بل نتيجة لعوامل عدة تكاملت لتنتج واقعًا مهنيًا جديدًا في المملكة.
أول هذه العوامل هو الدعم الحكومي المباشر الذي حظيت به الهيئة، والمتمثل في الموافقة على نظام مهنة المحاسبة والمراجعة الجديد، وإعادة تنظيم الهيئة بما يتماشى مع تطلعات السوق واحتياجات الاقتصاد. شكّل هذا الدعم نقلة نوعية في بيئة العمل المحاسبي، وفتح المجال أمام الهيئة لتحديث آليات عملها وإعادة هيكلة منظومتها بالكامل.
ثانيًا، وضعت الهيئة خطة إستراتيجية شاملة عُرفت بـ استراتيجية الهيئة 2021–2025، والتي انطلقت بتوجيه مباشر من معالي الدكتور ماجد القصبي، رئيس مجلس إدارة الهيئة، وبدعم أعضاء مجلس الإدارة. هذه الاستراتيجية هدفت بشكل مباشر إلى رفع كفاءة المهنة، وتمكين الكوادر الوطنية، وتعزيز البيئة المهنية، وربط مخرجات التأهيل باحتياجات سوق العمل.
ركزت الهيئة من خلال هذه الاستراتيجية على زيادة أعداد المهنيين المؤهلين من خلال برامج دقيقة في التدريب، مع تحديث شامل لـ اختبارات الزمالة والفحص المهني، لضمان توافر كوادر ذات كفاءة عالية تستطيع مواكبة متطلبات الأعمال الحديثة والمحاسبة الرقمية.
ومن أبرز الإنجازات في هذا الإطار، إطلاق برامج متخصصة في تأهيل الخريجين الجدد لسوق العمل، وتطوير شراكات استراتيجية مع الجامعات والمؤسسات التدريبية، إلى جانب توسيع قاعدة المكاتب المهنية من خلال مبادرات التأهيل والاعتماد، مما عزز من انتشار المهنة على مستوى المملكة.
وبالإضافة إلى ذلك، اعتمدت الهيئة سياسة التحول الرقمي الكامل في إجراءاتها وخدماتها، وهو ما ساهم في تسريع عملية إصدار التراخيص المهنية، وتحسين تجربة المستفيد، وخفض الفترات الزمنية اللازمة للمعالجة، مما جعل البيئة المهنية أكثر جاذبية ومرونة.
استراتيجية شاملة لرؤية مهنية متقدمة – الكفاءات في صميم التحول
أحد أهم مكونات استراتيجية الهيئة 2021–2025 كان التركيز على تطوير الكوادر البشرية الوطنية، وتمكينها للدخول في سوق العمل المهني بكفاءة واستعداد عالٍ. فقد أدركت الهيئة منذ البداية أن نجاح أي مهنة لا يقوم فقط على الأنظمة، بل على الكفاءات التي تدير تلك الأنظمة وتمارسها.
وبالتالي، تضمنت الاستراتيجية برامج مكثفة لتأهيل المحاسبين الشباب، سواء عبر برامج الزمالة المهنية أو من خلال المسارات التدريبية التخصصية التي تم تطويرها بالتعاون مع بيوت خبرة عالمية. كما أتاحت الهيئة فرصًا كبيرة للمهنيين السعوديين للتسجيل والترخيص، من خلال تبسيط الشروط، وتقديم الدعم الفني والإرشادي، وتوسيع نطاق الوصول إلى خدماتها.
كما حرصت الهيئة على ابتكار خدمات مهنية ذات قيمة مضافة تواكب تطورات السوق، من خلال إدخال مفاهيم المحاسبة الرقمية، واستخدام البرمجيات المتقدمة في الفحص والتدقيق، إلى جانب تحفيز تبنّي الممارسات العالمية في الحوكمة والإفصاح والرقابة المالية.
وفي جانب آخر، سعت الهيئة إلى مواءمة البيئة المهنية مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، والتي تركز على تطوير بيئة الأعمال، وتحفيز ريادة الأعمال، وتحقيق الاستدامة المالية في كافة القطاعات، ومنها القطاع المالي والمحاسبي. وقد برز هذا الأمر جليًا من خلال جهود الهيئة في تعزيز جاذبية المهنة، ليس فقط على مستوى الكفاءات الوطنية، بل كذلك للمستثمرين ومكاتب الاستشارات الدولية الراغبة في العمل داخل المملكة.
هذه الإنجازات تأتي أيضًا في وقتٍ تشهد فيه المملكة اهتمامًا كبيرًا بمفهوم الشفافية المالية والإفصاح، لا سيما مع إدراج الشركات السعودية في الأسواق العالمية، وحاجة هذه الشركات إلى مكاتب محاسبة مرخصة ومؤهلة وقادرة على الالتزام بالمعايير الدولية، وهو ما عملت عليه الهيئة بقوة خلال السنوات الماضية.
خلاصة القول – البيئة المهنية تنمو بثقة نحو المستقبل
تُمثل الأرقام الجديدة التي أعلنتها الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين علامة واضحة على أن القطاع المهني في المملكة يمرّ بمرحلة نضج وتحول شاملة، تستند إلى خطط استراتيجية مدروسة، ورؤية طموحة تقودها القيادة الحكيمة.
إن نمو التراخيص المهنية بنسبة 126% خلال خمس سنوات فقط، مقارنة بما تحقق في أكثر من 30 عامًا، يُبرز حجم التحول الذي تشهده المهنة، ويؤكد أن الاستثمار في الكفاءات المحلية، وتحسين البيئة التشريعية، ورفع كفاءة الخدمات، عوامل قادرة على إحداث نقلة نوعية في أي قطاع.
ومع قرب اكتمال استراتيجية الهيئة 2021–2025، فإن التوقعات تشير إلى مزيد من التطوير والتحول الرقمي والمهني، وإلى ارتفاع مستمر في أعداد المهنيين المرخصين، وتوسّع كبير في قاعدة المكاتب المهنية المؤهلة، مما يعزز دور الهيئة في دعم الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستدامة في القطاع المالي.
وفي ظل هذه الجهود، تتجه المملكة نحو تعزيز مكانتها كمركز مالي إقليمي وعالمي، من خلال بيئة محاسبية متقدمة، وممارسات مهنية متوائمة مع المعايير الدولية، وقوى بشرية وطنية مؤهلة ومرخصة على أعلى مستوى.