يونيو.. موسم الإبهار الفلكي في النصف الشمالي من الكرة الارضية
لا شيء يضاهي متعة النظر إلى السماء ليلًا، خصوصًا حين تتحول إلى مسرح مفتوح للعجائب الكونية والظواهر الفلكية المتنوعة. ومع دخول شهر يونيو من عام 2025، تستعد سماء النصف الشمالي من الأرض لاستضافة مجموعة ساحرة من المشاهد والاقترانات الكونية التي تجعل من هذا الشهر فرصة لا تُفوت لعشاق النجوم والفلكيين الهواة على حدٍ سواء. فقد أعلنت الجمعية الفلكية بجدة أن يونيو سيحمل معه زخة شهب نادرة، واقترانات مذهلة بين كواكب ونجوم لامعة، إضافة إلى لحظة الانقلاب الصيفي التي تحدد أطول نهار في السنة. كل هذه الأحداث الفلكية تفتح نوافذ جديدة للتأمل في عظمة الكون ودقة حركته.
إن هذا النوع من الظواهر لا يحتاج أدوات معقدة لرصده، فكثير منها يمكن مشاهدته بالعين المجردة من أماكن قليلة التلوث الضوئي. ومع كل ليلة تمر، تزداد السماء عمقًا، ويزداد العاشقون افتتانًا بجمالها الذي لا ينضب. إليك جولة موسعة في أبرز ما ينتظرنا هذا الشهر، مع شرح دقيق لتوقيتها وأهميتها، ولماذا يُعد يونيو هذا العام من بين أغنى الشهور فلكيًا.
زخات شهب نادرة واقترانات نادرة: حين يلتقي الضوء بالدهشة
أولى الظواهر اللافتة في سماء يونيو 2025 كانت زخة شهب "الحمليات"، وهي إحدى الزخات النادرة التي تبلغ ذروتها في بدايات الشهر، وتحديدًا يوم الثاني من يونيو. المميز في هذه الزخة أنها تحدث خلال ساعات النهار، مما يجعل من الصعب مشاهدتها بوضوح، ولكن لمن يملكون الصبر والاهتمام، قد تتاح لهم فرصة مشاهدة بعض الشهب المتناثرة قبيل الفجر، خاصة في المناطق المفتوحة ذات السماء الصافية. وتعود أهمية هذه الزخة إلى ندرتها، إذ إنها لا تظهر بانتظام مثل زخة "البرشاويات" أو "الأسديات"، بل تتطلب توقيتًا دقيقًا وانتباهًا خاصًا.
ولعل المشهد الأجمل في سماء يونيو ينتظرنا في منتصف الشهر، وتحديدًا يومي 16 و17 يونيو، حين يمر كوكب المريخ، بلونه الأحمر البرتقالي اللافت، بالقرب الظاهري من نجم قلب الأسد في كوكبة الأسد، وهو نجم لامع بلون أبيض مزرق يضفي تباينًا ساحرًا في السماء. هذا اللقاء الفلكي الفريد يُشبّه عادة بـ"عيني قطة سماوية"، نظرًا لتقارب اللونين وسط ظلمة الليل. لكن من المهم التنويه أن هذا القرب هو ظاهري فقط، فالمسافة الحقيقية بين الجرمين هائلة؛ إذ يبعد المريخ عنا حوالي 270 مليون كيلومتر، بينما يقع قلب الأسد على بعد يقدر بـ79 سنة ضوئية.
وبينما تنشغل الأبصار بهذا العرض السماوي المبهر، يُطل علينا البدر الكامل في الحادي عشر من يونيو، في مشهد لا يقل سحرًا. يتميز بدر هذا الشهر بمروره بمسار منخفض في السماء، وهو ما يُشبه إلى حد بعيد المسار الذي تسلكه الشمس في فصل الشتاء، مما يمنحه بُعدًا بصريًا مميزًا عند شروقه وغروبه. وسيكون هذا القمر أيضًا أكثر ميلًا نحو الأفق، وهو ما يزيد من تأثير "القمر العملاق" من الناحية الإدراكية، رغم أنه قد لا يكون الأكبر فعليًا هذا العام.
ولا تتوقف السماء عند هذا الحد، ففي الأيام الأخيرة من يونيو، يتكرر المشهد السماوي ولكن بترتيب مختلف. في يومي 29 و30 يونيو، يتجدد اللقاء بين القمر والمريخ، ولكن هذه المرة في طور الهلال الجديد، ما يمنحنا مشهدًا هادئًا وشاعريًا، حيث يظهر الهلال النحيف بالقرب من المريخ فوق كوكبة الأسد. هذا النوع من الاقترانات، على بساطته الظاهرية، يعد فرصة ذهبية لمصوري السماء ومحبي التفاصيل الدقيقة، إذ يتطلب تصويره إعدادًا خاصًا لتوازن الضوء بين جرمين يختلفان في الإضاءة والسطوع.
الانقلاب الصيفي والنجوم الموسمية: تحولات الزمان والاتجاه
إحدى أهم اللحظات الفلكية التي يشهدها النصف الشمالي من الأرض خلال شهر يونيو هي الانقلاب الصيفي، والذي يحدث هذا العام فجر يوم 21 يونيو. عند هذه النقطة تحديدًا، تصل الشمس إلى أقصى ميل لها شمالًا بالنسبة إلى خط الاستواء السماوي، مما يجعلها تُشع في السماء لأطول مدة ممكنة خلال العام. هذا يعني أننا سنحظى بـ"أطول نهار" و"أقصر ليل" في السنة، وهي لحظة تستحق التأمل لأنها تحدد دخول فصل الصيف رسميًا من الناحية الفلكية.
ومع التغير في أطوال الليل والنهار، تبدأ السماء في إعادة تشكيل مشهدها تدريجيًا. فعند النظر إلى الأفق الغربي بعد غروب الشمس، يمكن ملاحظة بقايا نجوم الشتاء التي لم تختفِ بعد، مثل كاستور وبولوكس في كوكبة التوأمان، والعيوق من كوكبة ممسك الأعنة، والتي تظل تذكّرنا بموسم مضى.
في المقابل، يطل علينا من الأفق الشرقي مثلث الصيف الشهير، وهو عبارة عن تشكيل سماوي يضم ثلاثة من ألمع نجوم السماء: النسر الواقع من كوكبة القيثارة، والنسر الطائر من كوكبة العقاب، وذي النير من كوكبة الدجاجة. هذه النجوم تُشكل مثلثًا واضحًا يمكن التعرف عليه بسهولة في ليالي الصيف الدافئة، ويعد بوابة دخولنا إلى عمق المجرة.
في هذه الفترة أيضًا، تظهر كوكبة العذراء بجمالها الخاص، وتضم النجم الساطع السماك الأعزل، الذي يُعد أحد ألمع نجوم السماء، كما تحتضن الكوكبة عنقود العذراء المجري، وهو تجمع هائل من المجرات البعيدة، يبعد عنا نحو 54 مليون سنة ضوئية. يمكن رصد هذا العنقود بواسطة تلسكوبات صغيرة، إذ تظهر مجراته على شكل لطخات خافتة كأنها "أحلام ضوئية" في قلب السماء.
ولا يغيب عن المشهد كوكب عطارد الذي يرافق الهلال القمري يومي 26 و27 يونيو، في الأفق الغربي بعد غروب الشمس. عطارد لا يُرى دائمًا بسهولة نظرًا لقربه من الشمس، لكن في هذه الأيام تكون ظروف رصده مثالية نسبيًا لعشاق المطاردة البصرية.
أما في السماء الشمالية، فتقلب كوكبة الدب الأكبر موقعها لتبدو مقلوبة، وتعمل كدليل بصري للعثور على نجم القطب الشمالي. وهذه الكوكبة الشهيرة، والتي تعرف أيضًا بـ"المغرفة الكبرى"، كانت منذ القدم أداة تحديد الاتجاه للمسافرين والبحارة، ولا تزال تلعب هذا الدور لكل من يهوى التنقل بين النجوم.
ختام: ليالي يونيو... فرصة ذهبية لاكتشاف سحر السماء
مع كل ليلة تمر من هذا الشهر، تتجلى سماء يونيو ككنز لا ينضب من الجمال والتنوع الفلكي. من زخات الشهب النادرة، إلى الاقترانات اللافتة، ومن الانقلاب الصيفي إلى الأجرام السماوية البعيدة، يقدم لنا هذا الشهر دعوة مفتوحة للتأمل والاستكشاف والتصوير. وفي زمن يتسارع فيه كل شيء، تظل السماء مساحة للهدوء والانبهار، نرفع إليها رؤوسنا فنشعر بالصغر والدهشة، ونتذكر أن فوق هذه الأرض الواسعة، هناك كون لا حدود له يدعونا لنغوص في أسراره.
سواء كنت من الهواة الذين يكتفون بالنظر عبر أعينهم، أو من المتمرسين في استخدام التلسكوبات والكاميرات الفلكية، فإن يونيو هو فرصتك الذهبية للاستمتاع بمجموعة نادرة من الظواهر التي لا تتكرر كثيرًا. وفي زمن يكثر فيه التلوث الضوئي وتغيب فيه السماء عن المدن، يصبح التخطيط لليلة رصد تحت سماء صافية تجربة لا تُقدر بثمن.
إن السماء في يونيو ليست فقط مرآة للكون، بل هي أيضًا مرآة لأحلامنا وأسئلتنا التي لا تنتهي، وهي تذكير دائم بجمال الأشياء التي لا نملكها، لكنها تمنحنا الكثير فقط إذا تفرغنا للتأمل فيها.